احمد جمال المدير العام للمنتدي خادم الاعتاب المحمدية
احترام قوانين المنتدى : الابراج : عدد المساهمات : 220 نقاط : 448539 السٌّمعَة : 2 تاريخ الميلاد : 01/08/1981 تاريخ التسجيل : 10/04/2011 العمر : 43 العمل/الترفيه : النت
| موضوع: فضل التصوف على غيره السبت أغسطس 20, 2011 10:26 am | |
| فضل التصوف على غيره
ووجوب أخذه عن أهله بقلم
الفقير إلى مولاه يسار الحباشنة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وأصحابه والتابعين إلى يوم الدين... وبعد يا إخوتي في الدين أيدني الله وإياكم بالروح الأمين فهذه رسالة من مطلبين الأول: فضل التصوف على غيره من العلوم والثاني: وجوب أخذه عن أهله المتخصصين. وأسأل الله العلي القدير أن يجعل عملي هذا خالصا لوجهه الكريم وأن يقبلني على عيبي وقصوري إنه سميع قريب مجيب. المطلب الأول: فضل التصوف على غيره من العلوم إن الإسلام دين يراد منه ثمرة ونهج يفضي إلى غاية، وما هذه الغاية إلا حقيقة العبودية وتحقيق الكمال البشري للنوع الإنساني. ولا شك أن طالب هذه الغاية يحتاج إلى معطيات هي بمنزلة المعلومات الأولية التي يُحتاج إليها لبلوغ الغاية. ومن هذه المعطيات معرفة الأحكام الشرعية في العبادات الظاهرية من الفروض العينية والمباديء الأولية الضرورية للغيبيات المتعلقة بصفات الذات الإلهية وحقائق عن الأرواح الإنسانية ومبتداها ومصيرها وعلاقتها بالهياكل والمواد الأرضية. إلا أن هذه المعطيات الأولية نقطة. فمن انطبعت في قلبه لم يعد بحاجة إلى تجزئتها، ومن أجملت في عقله،لم يعد بحاجة غالبا إلى تفصيلها، وإنما تفصيلها يشرُف بقدر ما يعين طالب الغاية العليا على بلوغ غايته وهي كما قلنا حقيقة العبودية وتحقيق الكمال البشري الذي هو موضع نظر الله من بين الخليقة. وما ذلك التفصيل سوى مرحلة أولية متقدمة عن وضع أول قدم على طريق السلوك القلبي المفضي إلى تلك الغاية وإنما يتوسع ذلك التفصيل أو يتقلص بحسب جهل الجاهلين وكمال استعداد الطالبين، كما قال حضرة مدينة العلم، سيدنا على كرم الله وجهه "العلم نقطة كثرها الجاهلون". قال تعالى: {الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب} فالاجتباء ابتداء من الله بالفتح على العبد وتعليم بالوحي والإلهام فلا حاجة للتفصيل العلمي عند المجتبى كالأنبياء وخواص الأولياء إلا في مقام المراجعة أو التبليغ أو البيان. والإنابة سعي من العبد وتعرض للفتوح. وإلى الله المصير في الحالتين. فمن نظر إلى تلك المعطيات الأولية من الفقه أوعلم الكلام باعتبار أن العلم بها من شروط الوصول اعتبر ذلك العلم أشرف العلوم أما من يرتب العلوم من حيث ثمار العمل بها فإن نهاية العمل بهذه العلوم هي إتقان العبادات الظاهرية وإقامة شرع الله والاقتناع العقلي بمباديء العقيدة وضرورياتها وهذا بحد ذاته خير عظيم وفيه النجاة من العذاب بلا شك إلا أن هنالك ما فوقها وإن كانت هي شرطا فيه، ألا وهو إتقان العبادات القلبية والاعتناق القلبي لمبادئ العقيدة وضرورياتها وأن تعبد الله كأنك تراه وأن تأتي بمكارم الأخلاق على وجه أقرب للكمال. فعلوم الفقه والكلام وكذلك الحديث من هذه الوجهة ثانوية إذ قد لا يتبعها وضع القدم في أول طريق السلوك القلبي الإحساني، فتكون الأفضلية لطريق السلوك (التصوف) ويعتبر العلم والعمل به أشرف العلوم كونه مسبوق (ولا بد) بما قبله وناتج عنه ولا بد ما بعده وهو حقيقة العبودية. فالعلم مثلا بأن الله واحد يختلف عن الإيمان بأن الله واحد ويختلف عن الإحسان بأن تعبد الواحد كأنك ترى الواحد. فالتصوف يجمع الاعتقاد الراسخ إلى الاقتناع المعرفي المجرد بواسطة مواجهة الروح لأنوار الواحدية وفنائها في توحيدٍ يُبقى الموحِّد أثرا بعد عين. وذلك الفناء هو الإحسان في أكمل وجوهه. فإن الإيمان إذا تم وكمل فلا بد وأن يؤدي إلى شهود الجلال والجمال الإلهي قولا واحدا، وذلك الشهود لا بد وأن يؤدي إلى نسيان الأغيار قولا واحدا. فبقدر ما ينقص من إيمان المرء ينقص من إحسانه وإذا تم الإيمان فذلكم الإحسان. وهذه من المسائل الغامضة التي يكثر فيها الخلط. وتشتبه على كثير من العلماء فضلا عن العامة. والموفق هو من كشف له الله عن معناها وبين له طرفاها ليعرف في أي محل هو في ميداني العلم والإيمان فلا يتخطى رقاب الصديقين بالتمني ولا ينزل نفسه منزل العامة بالحيرة. ولكم خاض في مقام الشهود من لم يصح عنده تصوره أصلا ولو صح عنده تصوره لما خبط فيه خبط عشواء فخلط الحابل بالنابل ولكم كان التوقف أولى به. ولما كان الوصول إلى تلك الغاية العظمى مشروطا بوجود القلب السليم {يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتي الله بقلب سليم} فقد قال حجة الإسلام الغزالي في الإحياء: "علم التصوف فرض عين، إذ لا يخلو أحد من عيب أو مرض إلا الأنبياء عليهم السلام، للعصمة التي لهم معجزة". ويقصد بالعيب هنا العيب الأخلاقي كالشح والغضب والبذاءة والجبن والخيانة وغيرها. والمرض هنا هوالمرض القلبي كالشك والكبر والعجب والرياء وحب الدنيا وغيرها، لا المرض الجسدي ولا النفساني بمصطلح الطب الحديث. وقال الجنيد رضي الله عنه: "لو علمت أن تحت أديم السماءأشرف من هذا العلم الذي نتكلم فيه مع أصحابنا لسعيت إليه". وكذلك قال الإمام الشاذلي رضي الله عنه: "من لم يتغلغل في علمنا هذا مات مصراً على الكبائر وهو لا يشعر". وقال سلطان العلماء العز بن عبد السلام رضي الله عنه: "والله ما قعد على قواعد الشريعة التي لا تنهدم إلا الصوفية". وقال ابن البنا في علم التصوف:
وأنكروه ملأ عوام *** لم يفهموا مقصوده فهاموا
وقال:
هل ظاهر الشرع وعلم الباطن *** إلا كجسم فيه روح ساكن وفي هذا البيت إيجاز وبلاغة وبلاغ لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. ولنتفكر في تلك الناقة التي كانت قائمة فلما خرجت روحها وقعت إلى الأرض. ترى أيهما كان الحامل وأيهما المحمول، الجسم أم الروح؟ وقال ابن البنا:
وكل من أنكر منه شيئا *** فإنما ذلك لسبع أشيا بجهله لنفسه الشريفة *** وكونها في أرضها خليفة وجهله بالعالم المعقول *** وشُغله بظاهر المنقول وسهوه عن عمل القلوب *** والخوض في المكروه والمندوب
وقال:
تبعه العالم في الأقوال *** والعابد الناسك في الأفعال وفيهما الصوفي في السباق *** لكنه قد زاد بالأخلاق
وقال:
إن العلوم في مقام البحث *** وإن هذا في مقام الإرث وها هنا أمر مهم: إذ شتان بين علوم البحث وعلوم الإرث مهما كانت الوسائل في علوم البحث. ولعل ما يقرب لنا هذه المسألة تعليم رب العزة آدم الأسماء كلها لا عن طريق البحث، وآدم من النوع الإنساني، وكذلك تعليم النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يكن يعلم لا من خلال البحث ومحمد من النوع الإنساني. قال مولانا القطب ابن مشيش رضي الله عنه في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وفيه ارتقت الحقائق وتنزلت علوم آدم فأعجز الخلائق، وله تضاءلت الفهوم فلم يدركه منا سابق ولا لاحق" وما إعمال العقل أصلا إلا في نقل منبثق عن ذلك الفتح الإلهي المباشر بلا واسطة العقل وبالاستغناء عن آلته، مع الوقوف عند الحد الذي لا يتجاوزه العقل، كما قال البوصيري رضي الله عنه:
وكلهم من رسول الله ملتمس *** غرفا من البحر أو رشفا من الديم وواقفون لديه عند حدهم *** من نقطة العلم أو من شكلة الحكم
ولتوضيح ذلك أقول: لم يحتج النبي صلى الله عليه وسلم لبحث عقلي أو تفكير أو حفظ كي يعي كلام الله المنزل عليه بالوحي. فكان عندما ينقطع الوحي يجد كلام الله محفوظا في قلبه كعملية الطبع تماما ولا يختلف ذلك عن الوحي من غير القرآن كالحديث القدسي؛ حيث المعنى هو المنزل دون اللفظ. وهذا لا ينفي كمال العقل المحمدي من حيث التفكير وقوانينه وكون ما يصدر عن ذلك التفكير من حكمة هو كذلك وحي من نوع آخر قد نسميه وحيا توفيقيا. وشاهدي من هذا الكلام هو أن النفس المحمدية الشريفة هي نفس بشرية رغم خصوصية النبوة والرسالة. فليس من المستبعد عقلا أن تكون النفس البشرية بعامة تصلح لدرجة أقل من هذا التلقي المعبر عنه بالإلهام و"التحديث" لغير الأنبياء. وأن لا يحتاج هذا التلقي إلى العقل إن اعتبرنا العقل محلا لقوانين التفكير والإدراك. وإنما يأتي دوره بعد التلقي في تفصيل المجمل واستنباط المعاني الجديدة من ذلك التلقي الأولي أو القياس عليها وغير ذلك من العمليات المنطقية. يتحدث أهل بعض التخصصات والاتجاهات الفكرية عن "تجريد التوحيد" وتراهم حوله يدندنون وبه غيرهم يدينون. وهو عند بعضهم أن لا تطلب العون إلا من الله وأن لا ترفع قبرا وألا تصلي في مسجد فيه قبر وأن لا تتبرك بأحد! وهو عند آخرين أن تنطلق بتفصيل وتفريع للتنزيه إلى حد يوجد فصلا هائلا بين اللاهوت والناسوت وكأنك قد جعلت من الذات الإلهية موضوعا جامدا وأنت الباحث المشرح فأنت الذات الفاعلة في موضوع منفعل وإن كان قصدهم بخلاف ذلك! فالصوفية وإن كانوا يرفضون قطعا قول البعض باتحاد اللاهوت بالناسوت كالنصارى والحلولية وغيرهم من أهل الضلال إلا أنهم في الوقت ذاته لا يقبلون بتلك المسافة الشاسعة بين الله وعبده التي يغرق في تفصيلها بعض المتكلمة بهدف تنزيه الله، فالصوفي يحب الله ويعلم أن الله إذا أحبه فإنه يحبه فحسب. ولا يحتاج الصوفي إلى الفهم العقلي لطبيعة حب الله له. فإذا كان المتكلم يقر بأن الحب أمر قلبي فلا حاجة أن يقحم العقل حتى لا يفسد على قلبه حال محبة الله وحتى لا تتشوش هذه المفاهيم القلبية التي أراد الله تعالى لها أن تبقى قلبية فقال {يحبهم ويحبونه} وقال { ونحن أقرب إليه من حبل الوريد}. أما تجريد التوحيد عند أهل التصوف فهو أن تصل إلى نتيجة حتمية لمعرفتك أنه الواحد وأن لا فاعل على التحقيق إلا هو وهذه النتيجة هي أن لا تشهد معه غيره لا افتعالا ولا تصنعا وإنما حالا تقام فيه ولا تحول عنه حتى لو أردت ذلك، إن جاز أن تريد ذلك. وخير تعبير لذلك عندهم هو الذكر، فالذكر يتعلق بالأنفاس إن كان جهريا ويتعلق بضربات القلب إن كان سريا، وهو متعلق في الحالين بالقلب والروح والسر، فهو بذلك توحيد تشهده ذرات الجسم كلها وتعيشه خلجات القلب كلها، فلا غرابة إذن أن يكون توحيدهم حياة كاملة وتوحيد غيرهم فكرة سابحة، وشتان بين حياة كاملة ينطق عنها كل ما يصدر منها، وبين فكرة سابحة تلمس مواطن الحياة تارة وتتقهقر عنها تارات. ولا نرى أثرا لذلك التوحيد الصوفي أكبر من الأثر على الأخلاق، ولله در ابن الفارض رحمه الله عندما وصف خمرة الذكر بأنها:
تهذب أخلاق الندامى فيهتدي *** بها لطريق العزم من لا له عزم ويكُرم من لم يعرف الجودَ كفُّه *** ويحلُم عند الغيظ من لا له حلم
نستكمل معا ............
ولذلك فإنك ترى أن أهل هذا المشرب هم أقرب الناس إلى الإنسان بيد أنهم ربانيون، وأبعدهم عن محاكمة الآخرين بيد أنهم عارفون، وأصبرهم على أذى من خلق بيد أنهم قادرون، وأنداهم يدا بعطاء ليقينهم بخزائن الجواد الكريم، وأقواهم على عدو من نفس أو غير لما سمعوا الخطاب: {إنك اليوم لدينا مكين أمين}. وذلك لرؤيتهم تجليات الواحد الجلالية والجمالية وملاحظتهم الإشارة إليه في كل شيء من بسط وقبض وقهر ونصر. من غير أن تمنعهم الكونيات من القيام بحق الشرعيات فالكل منه وبه. وأي تحقيق للتوحيد أكبر من أن يصبح الصوفي وحاله يقول: ماذا يُفعل بي؟ ويصبح غيره قائلا: ماذا أفعل؟ أي التوحيدين أرسخ؟ حتى لو كان صاحب التوحيد الثاني حافظا للمتون والأسانيد وعالما بتفاصيل الفروع. التي قد لا يحتاج المسلم إليها في العمر سوى مرة أو مرتين. ولكم رأينا من يخال الفروع أصولا لما يرى من عظيم تفصيلاتها ولو أنه علم أنها ليست مقصودة لذاتها لما هالته تفصيلاتها، ولولا أنه قد حُجب باللذة العقلية الكبيرة لاغترف من بحر ذوق فقدان حدوثه أمام وجود القِدم ولعرف أن الاستغراق في إعمال العقل في العقليات أو النقليات إثبات لا واع للحادث مع القديم. وهاهنا نقطة الافتراق بين الصوفي وغيره. قال الجنيد رضي الله عنه: "التوحيد إفراد القدم من الحدث" ولا يكون ذلك للمؤمن إلا بالخروج عن جميعه، كما قيل: "التوحيد هو الخروج عن جميعك بشرط استيفاء ما عليك".
وهيهات أن تخرج عن جميعك وأنت لا تزال واقفا مع لذتك العقلية. فاقرأ ما قاله السراج الطوسي في كتابه "اللمع" لتعرف لماذا يشكك الكثيرون في أفضلية التصوف أو ينأون عنه أو ينكرونه، قال رحمه الله في علم التصوف: "وقلّ من تراه يشتغل بهذا العلم الذي ذكرنا، لأن هذا علم الخصوص؛ ممزوج بالمرارة والغصص، وسماعه يُضعف الركبتين، ويُحزن القلب ويُدمع العين، ويُصغر العظيم ويُعظم الصغير، فكيف استعماله ومباشرته وذوقه ومنازلته وليس للنفس في منازلته حظ؛ لأنه منوط بأمانة النفوس، وفقد المحسوس، ومجانبة المراد. فمن أجل ذلك ترك العلماء هذا العلم، واشتغلوا باستعمال علم يُخف عليهم المؤن، ويحثهم على التوسيع والرخص والتأويلات، وقد يكون أقرب إلى الحظوظ البشرية، وأخف تحملا على النفوس التي جبلت على متابعة الحظوظ والمنافرة عن الحقوق" والشيخ رحمه الله يتحدث عن حقيقة التصوف وعن المتصوف الصادق الذي لا يريد إلا رضا الله لا أدعياء التصوف الذين ربما يريدون بتعلمه الوصول إلى الكرامات والخوارق والرياسات وتبرك الناس. ولعله يدخل في هذا المعنى ما ورد عن الحسن البصري رضي الله عنه أنه قيل له: فلان فقيه، فقال الحسن: "وهل رأيت فقيها قط؟ إنما الفقيه الزاهد في الدنيا الراغب في الآخرة البصير بأمر دينه." ومعاذ الله أن يكون مرادنا بهذا الكلام التقليل من شأن العقل أو علوم الشريعة كالحديث والكلام والتفسير وإنما المراد العمل بقوله تعالى "ألا تطغوا في الميزان" ومن الطغيان الخفي الاستغراق بالوسيلة على حساب الغاية وأن تُحجب بالراحلة عن الكعبة. فاللذة العقلية تُثبِت النفس وتنحاز إليها بلا ريب وهي حجاب عند أهل التحقيق وإن كان عملها في الحق. ولكن لا غنى عنها ما دامت لا تؤدي إلى خسران الميزان. بل هي من الوسائل إلى الغاية العليا وفيها بدايات مدارج الترقي وهذه مسألة دقيقة لا يكشف حقيقتها إلا الذكر ولا يجلي مداخلها ومخارجها إلا السلوك الحق. وأما من حيث العلم فإن الكثير مما عند غير الصوفي مفصلا هو عند الصوفي مجمل كتمييز بعض الأحكام الصحيحة من الفاسدة وربما وصل المنطقي إلى حكم صحيح عن طريق البحث والعناء ووصل الصوفي إلى الحكم نفسه عن طريق الإلقاء في الروع وتحديث القلب والفهم عن الله. فيقول العارف "حدثني قلبي عن ربي" ولا ينكر مثل هذا إلا جاهل فإن فيه شواهد كثيرة. إذ لا شك أن قلب أم موسى حدثها عن ربها أن تقذف موسى في اليم، قال تعالى {وإذ أوحينا إلى أم موسى أن اقذفيه في اليم}. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد كان في الإسلام قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي منهم أحد فعمر بن الخطاب منهم". على أن التصوف ليس مذهبا في التوحيد مختلفا عن مذهب أهل السنة فهو هو إلا أن أولئك ذاقوه وتضلعوا منه واقتصروا فيه على ما ينفعهم في آخرتهم، وغيرهم علمه ولم يتجاوز قشرته إلا من جمع بين التصوف والتفقه. وليس يشترط للرجل التعبير عن لب التوحيد على طريقة أهل التصوف أو القدرة على ذلك كي يكون من أهله، فالمسألة قلبية لا قالبية والتحقق بها عَلَنيّ طمْسيّ؛ منهم من يصلح له العلن ومنهم من يصلح له الطمس: "أقام العباد فيما أراد" ولله الأمر من قبل ومن بعد. هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم. ولا بد من الإشارة إلى أنه من المقرر عند السادة الصوفية أن كبار أئمة الفقه والتوحيد كسفيان وأبي حنيفة والشافعي والأشعري وغيرهم، هم من أوتاد الأمة الجامعين بين الظاهر والباطن ومن أرباب القلوب وأصحاب السلوك الذين لم يحجبهم عقل عن ذوق ولم توقفهم لذة نفسية عن المقصود الذي أمامهم - وهو الله تعالى - وهذا ما جعل منهم أسباب جمع للأمة لا أسباب فُرقة وأبقاهم في دائرة الاعتدال والتوسط الذي لا شطط فيه ولا تعصب. ولقد قيل: "العالم من لا يطفيء نورَ علمه نورُ ورعه". ولنا فيها فهم آخر وهو بقراءتها: "العالم من لا يطفيء نورُ علمه نورَ ورعه". برفع النور الأولى ونصب النور الثانية. بمعنى الذي لا يقف نور علمه حجابا بينه وبين سلوكه فإن من الحجب حجبا ظلمانية وحجبا نورانية والعلم ربما يكون في بعض الأحيان حجابا نورانيا. فهو نور بحد ذاته وإنما يجعله حجابا فساد النية قبله وبه أو الوقوف مع لذته العقلية أو منافعه الرياسية دون الالتفات الكافي إلى حظ القلوب من النور الذي لا يتأتى له دخول القلب إلا بتوقيف آلة العقل لحظات أو سويعات والجلوس بين يدي الله بالفقر المطلق الذي هو في الأصل نعت الإنسان الحقيقي. قيل للجنيد : بم نلت ما نلت قال : "بجلوسي تحت تلك الدرجة ثلاثين سنة". ينبغي لنا التذكير بأن الروح الصوفية هي التي حركت صحابة النبي صلى الله عليه وسلم نحو العالم وأوجدت فيهم الهمة القلبية القادرة على تحريك الجبال وما هذا إلا بالتوحيد الخاص الذي تميزوا به عن غيرهم. وليس هذا التوحيد مجرد فكرة أن الله واحد ولكن أن الناس كلهم وِحدة ماداموا كلهم محلا لتجلي الواحد. قال تعالى: {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة}. هذا الأمر أورثهم أخلاقا قل من عرفها بعدهم والتي تتمثل في أن يكون المؤمن أرضا يعبر عليها غيره وهذا لا يكون إلا بمحو النفس. (ومحو النفس) أو (قتلها) بالمعنى الصوفي لا يعرفه كثير من العُبّاد والفقهاء وعلماء الرسوم، فهو ليس من مصطلحاتهم ولا من مفاهيمهم. فهم لا يعرفون ماذا يعني أن تكون مرتبطا بالبيعة الروحية بسلسلة تمتد إلى رسول الله وإلى جبريل عليه السلام وإلى رب العزة فلا يعرفون إلا بيعة الحاكم ولي الأمر. ولا يدركون مفهوم الجماعة بهذا المعنى وإنما يتمثل عندهم بحضور الجمع والجماعات التي ربما تلتقي فيها الأشباح في مكان واحد ثم تفترق بعد أن يذهب كل إلى بيته ويعود كل إلى "أناه" ولو سمع أحدهم قول صوفي "لو غاب عني رسول الله طرفة عين ما عددت نفسي من المسلمين" رأيته ينكر ويتعجب قائلا: ما طولبنا بمثل هذا الحال! ومع أن هذا الحال هو الذي يجعل المؤمن أهلا للمدد الروحاني الساري في الوجود ويفني "النفس الأمارة" مصدر الشرور في النفس المحمدية الكاملة مصدر السرور {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم}. وما ذاك إلا لانحباس أرواح المنكرين في عالم الشهادة وابتعادها عن عالم الملكوت فلا يرون ما رآه إبراهيم عليه السلام {وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين}. وتراهم يقولون: ما وردت مثل هذه المعاني في النقول ولو أنهم أمعنوا النظر لوجدوا وابلا من الإشارات في النقول إلى هذا وفوق هذا إلا أن النبي وأصحابه كانوا أقرب إلى الإجمال وأبعد عن التفاصيل، إذ العلم نقطة كما قيل. وأما الواقفون عند حد العقول فلا يعبئون بمن يسألهم: "ما هذه الأصنام التي أنتم لها عاكفون"..فتراهم" ينظرون إليك وهم لا يبصرون" ينظرون النظر العقلي وينظّرون في الشهادي والغيبي ولا يبصرون البصر القلبي ولا يميزون بين خاطر رحماني وآخر نفسي. فشعارهم: بسم النفس وبالنفس وإلى النفس وشعار أرباب القلوب: بسم الله وبالله وإلى الله. منكسرين قد ذهبت نفوسهم يناجون بالأسحار:
مولاي أتيتك منكسـرا *** وإليــك شوقي لـم يعُج وأتيت إليك خليا مـن *** صومي وصلاتي مع حِجج
وكذا علمي وكذا عملي *** وكذاك دليلي مـع حُـججِ
وليس بحثنا فيما يوافق الشريعة من كشف أو ذوق صوفي أو يخالفها فإنه من المقرر عند أهل التصوف الحق أن أي كشف يخالف ظاهر الشرع مخالفة بينة مردود. ولكن يجدر الذكر أن موقف الكثير من الفقهاء من الكشف الصوفي يتأرجح بين قطبين: الأول: هو الرد إذا ما تبين لهم مخالفة الشريعة. والثاني: هو الرد لا لمخالفة الشريعة وإنما لمجرد عدم الورود في النقول. وغالبا ما يكون الموقف الأول قاصرا وذلك لأن الفقيه الذي يرد ويرفض يكون قد نصب نفسه عالما بكل دقائق العلوم الإسلامية وهو لم يتجاوز بعد النفس اللوامة أو المطمئنة في عُرف علم محترم من علوم الإسلام وهو علم التصوف. في حين أن المؤهل للرد أو القبول هو الفقيه الصوفي لا الفقيه فحسب. عملا بقول الإمام مالك: "من تصوف ولم يتفقه فقد تزندق ومن تفقه ولم يتصوف فقد تفسق ومن جمع بينهما فقد تحقق". أما إذا تصدر لذلك من هو على شاكلة الإمام مالك أو الغزالي أو العز أو النووي أو السيوطي أو الشعراني أو السرهندي أو زروق ممن لهم قدم في الموطنين أو سبق في المضمارين فإن أولئك هم الذين يُسمع لقولهم ويكون لكلامهم في هذه المسائل وزنا. أما أن يُعرف فقيه أو متكلم بالسبق في تخصصه دون السبق في السلوك وقطع مقامات النفس ويصدر الأحكام فذلكم الذي يُخشى أن يكون من الذين يقفون ما ليس لهم به علم. أما الموقف الثاني المتمثل بالرد لمجرد عدم الورود فإن غالب أهله هم من الذين يبنون أحكامهم على أصل فقهي فاسد وهو أن ترك النبي الفعلي لشيء أو سكوته القولي عن شيء يعني بالضرورة أنه مرفوض شرعا بل ومخالف للشرع. وهذه مشكلة عظيمة إلا أن المشكلة الأعظم هي أن أولئك لا يكلفون أنفسهم معرفة ما إذا كان قد ورد في الكتاب أو السنة ما يرمز إلى كشف أو ذوق صوفي معين أو يشير إليه أو يذكره صراحة بصورة مجملة، وما أكثر ذلك في الكتاب والسنة لأولي الألباب. وهذه هي الطامة الكبرى في تفكيرهم ومنهاجهم؛ الانتقائية والتعصب ضد كل ما لا يعرفون. وغالب أولئك من الذين أشربت قلوبهم حب الاتهام بالشرك والبدعة وأسس بنيانهم العلمي على ركن فاسد وهو أنه لا يوجد بدعة حسنة مخالفين بذلك ما ذهب إليه علماء أهل السنة والجماعة، فضيقوا على الناس كل شيء وسدوا عليهم باب الذكر الكثير ومجالس الذكر الذي هو باب النجاة وباب الإرشاد التزكوي وباب مبايعة المسلمين بعضهم بعضا على طاعة الله، الأمر الذي هو من معاني كلمة "الجماعة" التي يدّعونها. أولئك الكلام معهم صعب وإقناعهم أصعب إلا من رحمه الله ففتح عقله وقلبه ومد يده لإخوته. فنسأل الله أن يجمع المسلمين ويوحد كلمتهم. إن مسالة الكشف والفتح من المسائل التي يقف عندها الكثير من العلماء والباحثين لغموضها كما يقفون عند الكثير من مسائل التصوف التي تنتمي إلى قسم الدقائق أو "الحقيقة" التي تكون عادة ثمرة سلوك ومجاهدات وتقع في حيز لا ترتقي إليه اللغة البشرية. وهذا الوقوف الطويل عند هذه المسائل قد جلب الخسارة الكبيرة للمسلمين. فلقد أُهملت الطريقة التي هي السلوك والتزكية المطلوبة من كل مسلم. فترى المسلم يخلط بين الطريقة والحقيقة فإما أن يقتنع بحقائق تكلم بها بعض الصوفية وإلا فلا تصوف، بل ترى بعضهم يريد الطريقة أن تقنعه بسلوكها مع أنه هو الذي بحاجة إلى إقناعها بقبوله وهو مأمور بسلوكها لقوله تعالى {وألو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا}. وهذه قضية في غاية الخطورة وينبغي على أهل التصوف والعلماء من كافة الاتجاهات أن يفرقوا بين جانب "الحقيقة" من التصوف وجانب الطريقة وأن ينبهوا أتباعهم وعامة المسلمين إلى هذا الفرق. فالحقيقة من جانب معين تمثل الفتوحات والكشوفات التي قد يعبر عنها بعض الصوفية وتتناول علوما تتعلق بالماورائيات وتقترب من العقائد الإسلامية وتجيب على أسئلة فلسفية معينة. وأحيانا لا تسعف اللغة البشرية في التعبير عن مثل هذه الحقائق فتخرج بصور كلام مغرق في الرمزية أو عبارات ربما يرى فيها البعض شططا أو شطحا بل وربما فهمت على عكس معناها. ولست هنا بصدد الخوض في الدفاع أو التبرير أو التفصيل في هذه المسألة فلقد كُتب فيها الكثير مما هو معروف مشهور من الكتب فليرجع إليه الصادق، أما فاقد الصدق فلن ينفعه الرجوع إلى مئات الأسفار. وأما الذي يضع علم التزكية والطريقة وبعض ما ألف من المشكل في باب الحقيقة في رحل واحد فيرفض التصوف جملة لكونه اسم جامع للطريقة والحقيقة فهذا لعمري الذي يريد أن يهدم الإسلام سواء عرف أم لم يعرف. لمثل هؤلاء نقول: إن كنتم تعرفون أن علم التزكية من أهم علوم الإسلام إن لم يكن أهمها ولا يعجبكم من تخصص وتكلم في هذا العلم قديما أو حديثا ولا يروق لكم نهج من ربى وأرشد الملايين حسب هذا العلم، إن كان الأمر كذلك، فنرجوكم أن تخرجوا لنا متخصصيكم الذين يزكون القلوب ويرشدون المسلمين في السلوك إلى الله كما فعل القوم، ونقول لكم ما قاله الشاعر: أقِلُّوا عليهم لا أبا لأبيكم *** من اللوم أو سدوا المكان الذي سدّوا ولكن لن تجد من أولئك المنكرين من يقدر على ذلك ولو حرصت، بل إنهم لا يستندون إلى علم تزكوي يخلصهم أنفسهم من آفات قلوبهم والأوحال التي علقت بتوحيدهم فأنى لهم أن يسعفوا غيرهم.. هيهات هيهات. فالطريقة هي ترجمة التوحيد من لغة الحروف والكلمات إلى لغة الروح والحياة، والعلم بها هو المخرج من قفص النفس الباطلة إلى من إليه المصير وهو الله الحق، إذ ماذا بعد الحق إلا الضلال. ووالذي فلق الحبة وبرأ النسمة لا يبلغ مقامات المقربين إلا من سلك وتزكت نفسه وصفا قلبه حتى صار أهلا لنظر الحق تعالى، ولا يغترن أحد بلسان فصيح أو قوة حافظة أو طول لحية أو كبر عمامة أو علم غزير لا ينفع حتى ولو كان علما بأشرف معلوم. وخير شاهد على ضرورة التصوف وتزكية النفس، وعلى شرف هذا العلم على سائر العلوم قصة إبليس اللعين. فلقد علمتم أن إبليس كان من أكثر الخلق عبادة لله وعلما به حتى فاق الملائكة. ولكن كل ذلك لم ينفعه بشيء لحظة الامتحان حيث تكشفت تلك الآفة الخطير وظهرت من نفس غير مزكاة، ألا وهي آفة الكبر التي أوردته المهالك وقادته إلى كفر الجحود. أفلا يخشى الفقهاء والعبّاد الذين لا يعبئون بالسلوك القلبي من مثل هذه الآفة أن تظهر عندهم في وقت من الأوقات وهم لا يعلمون بوجودها. ماذا سينفعهم علمهم بالعقيدة وأحكام الفقه وصلاتهم وصيامهم حينئذ. فإن كانوا يخشون ذلك فمن أين لهم العلم بتزكية نفوسهم ليتجنبوا الهلاك بتلك الآفة أو غيرها؟ أمن الكتاب والسنة؟ نعم فهو في الكتاب والسنة ولكن من الذي سيستنبط لهم أحكامه من الكتاب والسنة، أليسوا هم المتخصصون في هذا العلم. ومن هم المتخصصون في هذا العلم أليس الصوفية؟ وأختم هذا المطلب بأن لا عبرة بالمسميات والمصطلحات فكلمة تصوف اسم إن تحقق معناه فلا يضر إهماله أو استبداله.
| |
|